خيانة الوالدين
أ. أريج الطباع
السؤال :
السلام عليكم، أُستاذي الفاضل/ أستاذتي الفاضلة.
احترتُ كثيرًا إلى مَن أكتُب، بل كيف أكتب، وكيف أصِف مصيبتي التي ابتلاني الله بها، أنا فتاةٌ عمري 21 عامًا، وحيدة أهلي، فلَم يكتبِ الله لهما سواي، لم أعُد أحتمل الخوفَ والقلق، اللذين يقضَّان مضجعي ليلاً ونهارًا.
أشعُر بالألَم يغرس مخالبَه في شراييني فيقطعها، فليتني لم أُولدْ ولم أكُن!
مشكلتي، بل بَلْواي، هي أنَّني اكتشفتُ أنَّ الشخصين الوحيدين اللذَّين يمدَّانني بالأمان في هذه الحياة يَخونانِ بعضهما! نعم، والدِي يخون والدتي مع غيرِها، ووالدتي تخونه أيضًا!
اكتشفتُ خيانةَ والدتي في أحد الأيَّام بعد أنْ لاحظتُها مرارًا وتَكرارًا تتحدَّث في الهاتف في منأًى عن الجميع، ظننتُ أنَّه أمر عادي أنْ تتحدَّث والدتي في الهاتف، لكنَّني سمعتُها في أحد الأيام تتحدَّث وأنا أنزل عتباتِ السُّلم، فتقول: "حبيبي قد أعطيتَني ما كنتُ أفتقدُه مع زوْجي".
توقَّف الزمنُ حينها، وكأنما أحدُهم صبَّ ماءً باردًا على رأسي، وهرعتُ إلى غُرفتي أبكي، لكن لم يعلمْ أحد بألَمي، وتكرَّر الموقِف، وسمعتها تتحدَّث - بما أخْجل أن أقوله - على الهاتف، هذا غير الرسائل التي وجدتُها في هاتفها بعْد أن صرتُ أتجسَّس على أمِّي؛ لَعلِّي أجد ما يرمي بشكوكي عُرْض الحائط، لكن للأسف وجدتُ رسائل خجلتُ حتى مِن قراءتها مِن شخص أعرِِفه تمام المعرفة، ولم أعْلم ماذا أفعل!
بعد مُدَّة اكتشفتُ خيانةَ والدي مع سكرتيرته المتزوِّجة، التي كانتْ تتقرَّب من أمِّي، حتى أصبحتْ صديقتَها، وهي تخونها في نفس الوقت، فكانت تعلم بأدقِّ تفاصيل حياتنا!
كنتُ أرى رسائلَ والدي لها، ومحادثاتِه معها، تأكََّدتُ من ذلك بعد أنْ وجدتُ إحدى رسائل والدي المرسَلة لها على جهاز الكمبيوتر تقطر شوقًا ولهفة، بينما يصِف أمِّي بـ"الغبية"، ويغضب عليها لأتْفه الأسباب، وسكرتيرته المتزوِّجة أمّ الأطفال تَلْقى حنانه واهتمامه!
هذا كثيرٌ جدًّا عليَّ، أحيانًا أفكِّر أن أقتُل تلك المرأة التي يحبُّها والدي، فيرموني في سجْن أبتعدُ فيه عن الجميع، لم أعُدْ أريد هذه الحياة.الجواب :وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته،
آلَمتْني استشارتُك منذ قرأتُها أوَّل مرة، وكل مرة أهمُّ بالإجابة عنك، يعتصرني الألَم على حالك، وأخْشى أن أتعجَّل، فلا أُعطيها حقَّها.
فالخيانةُ من أصْعبِ المشكلات، وفقدان الثِّقة بمن نحبُّ أصعب، وأن يكون الطرَف الآخَر بالخيانة شخصًا نعرِفه ويخدعنا أصعَبُ وأصعَب.
لكن دَعينا نرَ الأمرَ كله بموضوعية قدْرَ استطاعتنا، أنْ نرسُم صورةً لِمَا حدَث؛ لنستطيعَ بعدها أن نضع الخُطَّة لتجاوزها:
عمرك 21 سنة، هذا يعني أنك تخطيتِ مرحلةَ المراهقة الآن، وأصبحتِ فتاةً ناضجة، يمكنها أن تدخُلَ معترك الحياة.
أنتِ وحيدةُ والديك، وهذا يعني أنَّ زواجهما معًا له أكثر من 21 سنة، ولم توضِّحي لنا مدى علاقتك بوالديك قبل اكتشافِك للخيانة، هل تشعرين باهتمامِهما، أو أنَّ حياتكم بالبيت كلٌّ له استقلاله؟
مِن الواضح، حبُّك الشديد لوالديك، ورغبَتُك في استقرار حالهما، واستمدادك الأمان والثِّقة من قُرْبهما.
كِلا والديك أخطأ، وخَدَع الطرَف الآخَر وخانه، وإنْ كان قاسيًا عليك، لكنَّك لم يكن لك ذنبٌ فيما حدَث، بل حتى هما لا يشعرانِ بمعرفتك بالأمْر.
خوفك وحبُّك وقلقك، دفعَك لأن تَهْتكي أستارَ ما خفي عنك، فتحطمتِ بتحطُّم صورة القدوة عندك، المتمثِّلة في أقرب شخصَين لقلبك.
النتيجة أنَّك الآن تمرِّين بحالة اكتئاب، وعدم قُدرة على التكيُّف مع الواقِع الذي تعيشينه، وشعور بضغْط داخلي شديد؛ لكونِك لا تَجدِين مَن تثقين به، وتُسِرِّين له بهمِّك؛ ليدعمَك - على الأقل - وفي الوقت نفسه شعورك بالعجز عن التصرُّفِ وحلِّ الأمر يَزيد اشتعالك الداخلي وألَمك، ولا أحَدَ يشعر بك في المقابل.
هل وُفِّقتِ في رسْم الصورة بشكلٍ جيِّد؟
آمل ذلك، وإنْ كنتِ قد أغفلت شيئًا، فليتك تتابعين معنا؛ لنحاولَ أن نصل معًا لما يُريحك قدرَ استطاعتنا - بإذن الله.
هذه المشكلة تتعلق بخمسة أشخاص:
1) قبل كل هؤلاء أنت الأهمّ؛ حيث إنَّك الشخصُ الوحيد الذي يُمكننا التواصلُ معه ومتابعته، عكس البقية الذين قد لا نملِك تغييرَهم.
2) والدك.
3) والدتك.
4) السكرتيرة.
5) الشخص الذي تعرفينه جيدًا، ويتواصل مع والدتك. لنبدأ بك أنت، الطَّرَف الأول والأهم؛ عرفتِنا عن نفسك بالاستشارة باسمِ (مؤمنة صابرة)، وما أروعَه من اسمٍ وصفة! نتوق جميعنا لنتحلَّى بها، أوَليس يُوفَّى الصابرون أجْرَهم بغير حساب؟! أوَليس قلْب المؤمن جَنَّته، فلا يَضيره شيءٌ ما دام الله معه؟!
فهل تستشعرين هذا أُخيَّتي؟
عزيزتي، لا يُكلِّف الله نفسًا إلا وُسعَها، ولو تأمَّلْنا في البلاء، لوجدْنا خلَفه الكثيرَ من الرحمة، والكثير من الخبرات التي يُمكننا اكتسابها، والاستفادة منها.
لا تنظري لنفسِك على أنَّك ضحية، فقد اختاركِ الله لهذه المِحْنة، إذًا لا بدَّ أن يكون فيها خير، ولو لم تَلمسيه بعد.
ربَّما هي رسالةٌ؛ كيلا تستمدِّي الأمان مِن أشخاص، أيًّا كانتْ محبتهم في قلبك، وقُرْبهم منك، ثِقي أنَّنا حينما نستمد الثقة والأمان مِن الله، فإنَّه يُعوِّضنا فوقَ تخيلنا، ويجعل أفئدةَ الناس تَهْوي إلينا، والعكس حينما نتعلَّق بالأشخاص، فإنَّنا نفقدهم غالبًا، أو يكون ابتلاؤنا بهم!
أيضًا ربما يكون ما حدَث؛ ليجعلك أكثرَ قوَّةً واستقلالية عن والديك، فخِبرةٌ كهذه ستجعلك تنظرين للحياة بعُمقٍ أكثرَ، لا أَنْفي الألَم الذي يعتصر قلبَك، لكن فكِّري فقط بطريقة مختلفة: الحياة بها الخيرُ والشر، وقد يجتمعانِ أحيانًا كثيرة في شخص واحد، جوانب الشر لا يَنبغي أن تجعلَك تُغلقي عينَك عن رؤية الخير والإيجابيات أيضًا.
ووالداك - مع كلِّ شيءٍ ممَّا حصل - يحملان قلوبًا وجِلة في النهاية، فعدم المجاهَرة بالمعصية، وحِرْصهما على الستر أمرٌ جيِّد، ويعني أنهما لا يرضيانِ ما يحصل، وإن كانا قد سمَحا للشيطان أن يدخل عليهما، فلا تهتكي هذا الستر فتعرِّيهما.
أعْرِف أنَّ قلقَك هو الذي دفعَك للبحث، لكنَّنا يجب أن نفكِّر دومًا بما تعود علينا به الأعمالُ من نفْع أو ضرر، ولا أتوقع أنَّ معرفتَك للتفاصيل ستُفيدك، بل ستَزيدك ألمًا، فابتعدي تمامًا عن هذا الطريق، يَكفينا أن نعرِف أنهما على خطأٍ لنساعدَهما.
قبلَ مساعدتهما، فكِّري في مساعدة نفسك أولاً، فيجب أن تكوني قويةً واثقةً بالله، وألا تَسْمحي للشيطان أن يدخل عليك مِن مداخله العجيبة بهذه المِحنة.
قوِّي صِلتَك بالله، وأكْثري من الدعاء، فهو أفضلُ سلاح، وهو الباب الوحيد الذي لا يُغلَق مهما فقدْنا الأمَل في الناس.
استفيدي مِن هذه التجرِبة، بأن تفكري في السلبيات التي قادتْهما لهذا، حتى تتجنبيها بحياتك.
من الأسباب التي لمستها:
• غِياب التقوى وخشيةِ الله، فهي ما تدفَع المرء ليعالِجَ الحرمان بالمعصية، والخطأ بخطأ أكبرَ منه.
• الاختلاط دون ضوابط، والخلوة بيْن رجل وامرأة، ومِن أرْوع الأحاديث ما ورَد في خُطبة عمر - رضي الله عنه -: "خطبَنا عمرُ بالجابية، فقال: يا أيُّها الناس، إني قمتُ فيكم كمقام رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فينا، فقال: أُوصيكم بأصحابي، ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذِبُ، حتى يَحلف الرجل ولا يُستحلف، ويَشهد الشاهد ولا يُستشهد، ألاَ لا يَخلونَّ رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان، عليكم بالجماعةِ، وإيَّاكم والفرقةَ، فإن الشيطان مع الواحِد، وهو من الاثنين أبعدُ، مَن أراد بحبوحةَ الجنة، فليلزمِ الجماعة، مَن سرَّتْه حسنتُه، وساءتْه سيئتُه، فذلكم المؤمن".
• أحيانًا كثيرة يهرَب الناس مِن واقع مؤلِم إلى وهْم يجعلهم كالمُدمِنين، يستمتعون مؤقتًا، ويَخدعون أنفسهم قبلَ غيرهم، وكان أوْلَى لهم البحث بإيجابية عن مكامِنِ الخَلل، وأتوقَّع تقصيرَ والدك وانشغالَه عن أمك، وعدم فَهْمها له قد يكون له دَوْرٌ كبير.
• مهما كانتْ ثِقتنا بالآخَرين، فلا يَعني ذلك أن نُغمض أعيننا، ولا أن نفقدَ الثقة بالجميع في الوقت نفسه، لكن نحتاج أن نضَعَ لنا دومًا حدودًا تَحْمينا، ونكون أكثرَ وعيًا. هذا ما حضَرني مِن سرْدك، لكنَّكِ - ولا شكَّ - حينما تفكِّرين ستجدين أسبابًا أخرى، قد تنفعك بحياتك غدًا - بإذن الله.
اكتُبِيها، واكتبي أيضًا الأشياءَ التي ترغبين في تجنُّبها مستقبلاً، وانتبهي ألاَّ تكون مبنيةً فقط على رِدَّة فعل، وستكتشفين وقتَها أنَّك تملكين خبرةً صقلتك عن قريناتك.
هذا عنك، لكن ماذا عن الأطراف الأربعة الأخرى؟
لنبدأ بوالديك:بداية لن نستطيعَ فعْل شيء عن بُعْد، تحتاجين أن تكوني قريبةً منهما؛ لتستطيعي أن تُوصِّلي لهما نصحك، خاصَّة والدتك، تذكِّري أنَّه مهما حصَل فإنَّهما يظلاَّن والديك، وهي العَلاقة الوحيدة التي مِن المستحيل أن تنفصمَ مهما حدَث!
فَهْمُك لمداخلهما يُساعِدك كثيرًا، انتبهي ولا تتعجَّلي في أيِّ تصرُّف قد يُفسد الأمورَ أكثر مِن إصلاحها، لكن في الوقت نفسه لا تكوني سلبيةً تمامًا، أشْعريهما أنَّك تفتقدينهما، وتفتقدين الاستقرارَ والأمان.
لو كانَا بالذروة في العلاقة، فسيصعب منهما أن يستمعَا لك، فلا تَجْعلي ذلك يحبطك، الدماغ يُفرز في هذه العلاقات شيئًا يشبه الإدمانَ، يجعل الشخصَ كأنَّه في غيبوبة، نحتاج أن نتعاملَ معه كتعامُلِنا مع الشخص المدمِن بحَذرٍ وحِكمة.
ابْحَثي عن شخصٍ رشيد بعائلتكم، يُمكنه مساعدتُك، وتكون علاقتُه بوالديك جيدةً، ومصدرَ ثِقة، قد يكون خالاً أو عمًّا أو جَدًّا، أو حتى مستشارةً تَثقين فيها ببلدكم؛ لتتابعَ معك، لكن المهم ألاَّ تُخبريه بكلِّ شيء، خاصَّة لو كان مِن الأقارب، فقط حاولي الحصولَ على مساعدته وحِكمته.
انتبهي أرجوك، فمهما حصَل، تبقين أنت عنصرًا منفصلاً، ولستِ ضمنَ الدائرة، لو دخلتِ بها فسيكون الأثرُ سلبيًّا أكثرَ عليك وعليهما.
الْجئي لله في كلِّ وقت؛ ليقويَك، واحمديه أنَّك لا دَوْر لك فيما يحصُل.
أمَّا بالنِّسبة للطرَفين الآخرَين، فعليك بالحِكمة كثيرًا في التعامُل معهما. أيضًا نحتاج أن نفهمَها جيدًا، فبعض الأشخاص يَدخلون وفي نِيَّتهم هدْم البيت الأوَّل.
حاولي أن تُوصِّلي لوالديك رسائلَ - تلميحًا لا تصريحًا - أنَّك تخافين مِن الثِّقة بهما، ابْحثي عن أسبابٍ حقيقية تجعلهما يَقتنعان، وبحال دافعَا عنهما أظهري براءة، فقط أثيري الشكَّ بنفسيهما.
أمُّك أسهَل مِن والدك، بحُكم أنها المرأة، استشيريها كأنَّ المشكلة لا تتعلَّق بك، وانظري لردَّةِ فعْلها، طبعًا غيِّري كثيرًا بالمشكلة؛ حتى لا تَزيد الأمور سوءًا.
أيضًا الْفِتِي نظرَها لما تحتاجه الزوجةُ مِن زوجها، كذلك والدك لو استطعتِ الوصولَ له، وكان شخصًا عاطفيًّا، أثْرِي مشاعره بطريقة تُناسبه.
ركِّزي دومًا على مخافةِ الله وتقواه، وتَذكيرهما بها، وتذكَّري أنَّنا لا نملِك الهدايةَ لأحد، وإنْ كان مِن واجبنا النصحُ بحِكمة، علينا باتِّخاذ الأسباب، لكنَّنا لن نضمنَ النتائج، فهي بيدِ الله وحدَه، ومهما كانتْ محبتنا وحِرْصنا، فلن نستطيعَ أن نساعدَ شخصًا قرَّر أن يُغلِقَ قلْبه وعقله عن الحقِّ أيًّا كان.
فأكْثري مِن الدعوات لهما بالهِداية، واعْتني بنفسك، واشْغليها بما ينفعك، ويُخفِّف عنك.
نسأل الله أن يُعوِّضَك بزَوج صالِح يخاف الله، وأنْ يهديَ والديك، ويُبعدَ عنهما كلَّ سوء.