كتاب بلوغ المرام : باب العدة والإحداد (5/12)
]جواز خروج المطلقة في عدتها عند الحاجة بخلاف المحدة]
وعنْ جابرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: طُلِّقَتْ خَالَتِي، فَأَرَادَتْ أَنْ تَجُدَّ نَخْلَها، فزَجَرَها رجُلٌ أنْ تَخْرُجَ، فأَتَت النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالَ: ((
بَلْ جُدِّي نَخْلَكِ؛ فَإِنَّكِ عَسَى أَنْ تَصَدَّقِي أَوْ تَفْعَلِي مَعْرُوفًا)). رواهُ مسلمٌ.
قال الشيخ محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني في سبل السلام :
(
وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: طَلُقَتْ خَالَتِي، فَأَرَادَتْ أَنْ تَجُدَّ): بِالْجِيمِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، هُوَ: الْقَطْعُ الْمُسْتَأْصِلُ كَمَا فِي الْقَامُوسِ. وَفِي النِّهَايَةِ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ: صِرَامُ النَّخْلِ، وَهُوَ قَطْعُ ثَمَرِهَا.
(
فَزَجَرَهَا رَجُلٌ أَنْ تَخْرُجَ، فَأَتَت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: بَلْ جُذِّي نَخْلَكِ؛ فَإِنَّكَ عَسَى أَنْ تَصَّدَّقِي، أَوْ تَفْعَلِي مَعْرُوفاً. رَوَاهُ مُسْلِمٌ) فِي بَابِ جَوَازِ خُرُوجِ الْمُعْتَدَّةِ الْبَائِنِ، كَمَا بَوَّبَ له النَّوَوِيُّ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ بِزِيَادَةِ: طَلُقَتْ خَالَتِي ثَلاثاً.
وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ خُرُوجِ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ طَلاقٍ بَائِنٍ مِنْ مَنْزِلِهَا فِي النَّهَارِ لِلْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ، وَلا يَجُوزُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ.
وَقَدْ ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِن الْعُلَمَاءِ، وَقَالُوا: يَجُوزُ الْخُرُوجُ لِلْحَاجَةِ وَالْعُذْرِ لَيْلاً وَنَهَاراً؛ كَالْخَوْفِ، وَخَشْيَةِ انْهِدَامِ الْمَنْزِلِ، وَيَجُوزُ إخْرَاجُهَا إذَا تَأَذَّتْ بِالْجِيرَانِ، أَوْ تَأَذَّوْا بِهَا أَذًى شَدِيداً؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {
لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}، وَفَسَّرَ الْفَاحِشَةَ بِالْبَذَاءَةِ عَلَى الأَحْمَاءِ ونَحْوِهِم.
وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ إلَى جَوَازِ خُرُوجِهَا نَهَاراً مُطْلَقاً دُونَ اللَّيْلِ؛ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَقِيَاساً عَلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ. وَلا يَخْفَى أَنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ عُلِّلَ فِيهِ جَوَازُ الْخُرُوجِ بِرَجَاءِ أَنْ تَصَّدَّقَ، أَوْ تَفْعَلَ مَعْرُوفاً، وَهَذَا عُذْرٌ فِي الْخُرُوجِ.
وَأَمَّا لِغَيْرِ عُذْرٍ، فَلا يَدُلُّ عَلَيْهِ إلاَّ أَنْ يُقَالَ: إنَّمَا هذا رَجَاءُ فِعْلِ ذَلِكَ، وَقَدْ يُرْجَى فِي كُلِّ خُرُوجٍ فِي الْغَالِبِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ الصَّدَقَةِ مِن التَّمْرِ عِنْدَ جِدَادِهِ، وَاسْتِحْبَابِ التَّعْرِيضِ لِصَاحِبِهِ بِفِعْلِ الْخَيْرِ، وَالتَّذْكِيرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالْبِرِّ.
-----------------------------------------
قال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام في توضيح الأحكام :
* مُفْرداتُ الحديثِ: - جُدِّي: بضمِّ الجيمِ، أي: اخْرُجِي إلى نَخْلِكِ، فجُدِّيهِ.
- أنْ تَجُدَّ نَخْلَها: جَدَّ يَجُدُّ ـ من بابِ قَتَلَ ـ جَدًّا، بمعنى: قَطَعَ، وأَجَدَّ النَّخْلُ: حانَ جِدَادُه، والجَدادُ بالفتحِ والكسرِ: صِرامُ النَّخْلِ بقَطْعِ ثَمَرَتِها، والمرادُ: أنَّ هذه المرأةَ تُرِيدُ أَنْ تَصْرِمَ نَخْلَها وتَقطَعَهُ.
- فزَجَرَها: انْتَهَرَها، ومَنَعَها.
- فإِنَّكِ عَسَى: تَعِليلٌ للخُروجِ.
- أو تَفْعَلِي: للتنويعِ.
* مَا يُؤْخَذُ من الحَديثِ:1- أنَّ المُطَلَّقَةَ في عِدَّتِها لَيْسَتْ كالمُتَوَفَّى عنها في عِدَّةِ الوفاةِ،
فلها الخروجُ متى شَاءَتْ معَ أَنَّ الأفْضَلَ على وَجْهِ العُمومِ: أنَّ بقاءَ المرأةِ في بَيْتِها أَفْضَلُ لها وأَصْوَنُ، فإنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ: ((
بُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ)). هذا في حَقِّ العبادَةِ، والصلاةِ معَ المُسلمِينَ وسَماعِ الخَيْرِ، فكَيْفَ معَ غيرِ ذلك؟
2- قالَ ابْنُ القَيِّمِ: إنْ قَالَ مُعْتَرِضٌ:
كَيْفَ فَرَّقَتِ الشريعةُ بينَ الموتِ والطلاقِ معَ استواءِ حالِ الرحِمِ فيهما؟ والجوابُ: أنَّ هذا إنما يَتَبَيَّنُ وَجْهُهُ إذا عَرَفْتَ الحِكْمةَ التي لأجْلِها شُرِعَتِ العِدَّةُ، فإنَّ العِدَّةَ شُرِعَتْ لِعِدَّةِ حِكَمٍ:
منها: العِلْمُ ببَرَاءَةِ الرَّحِمِ.
ومنها: تَعْظِيمُ خَطَرِ هذا العَقْدِ.
ومنها: تَطْوِيلُ زَمَنِ إمكانِ الرَّجْعَةِ للمُطَلِّقِ، إذْ لَعَلَّه يَندَمُ.
ومنها: الاحتياطُ لحَقِّ الزوجِ ومَصْلحةِ الزوجةِ، وحقِّ الوَلَدِ، والقيامُ بحقِّ اللهِ الذي أَوْجَبَهُ.
ففي العِدَّةِ أَرْبَعَةُ حُقوقٍ: حَقُّ اللهِ، وحَقُّ الزوجِ، وحَقُّ الزوجةِ، وحَقُّ الولَدِ.3- فَحْوَى الحديثِ أنَّ المُحِدَّةَ لا تَخْرُجُ من منزلِها مُدَّةَ العِدَّةِ والإحدادِ، فهذا ما فَهِمَهُ الصحابةُ من أحكامِ رَبِّهم، وهذا ما دَعَا قريبَ المُطَلَّقَةِ إلى زَجْرِها عن الخروجِ.
4- جوازُ خُروجِ المُطلَّقَةِ عندَ الحاجةِ، ومن الحاجةِ استحصالُ غَلَّةِ عَقارِها، من جَدِّ ثِمارٍ، وحَصْدِ زُروعٍ، أو قَبْضِ أُجورٍ، ونحوِ ذلك.
5- أنَّه يُسْتَحَبُّ لمَن عندَه تَمْرٌ يَجُدُّه، أو يَجْنِيهِ، أو زَرْعٌ يَحْصُدُه: أنْ يَتَصَدَّقَ بجُزءٍ منه، ويُحْسِنَ إلى المُحتاجِينَ، وذلك من غيرِ الزكاةِ، فهو مِن المَعْروفِ والإحسانِ، والأنْفُسُ مُتَشَوِّفَةٌ إليه، والفُقراءُ مُتَطَلِّعُونَ إليه، فحِرْمَانُهم منه يَحُزُّ في نُفوسِهم، ويُثَبِّتُ الحِقْدَ والعداوةَ فيهم على الأغنياءِ.
6- استحبابُ سُؤالِ أهْلِ العلمِ عن حَقائقِ العلمِ التي يَتَسَرَّعُ العوامُّ إلى إفتاءِ الناسِ فيها بلا مُسْتَنَدٍ شَرْعِيٍّ.