أضرار ضياع حق العلماء
الشيخ محمد عمر بازمول
حياة العَالِم حياة العالَم.
يروى عن علي بن أبي طالب قال: "
إذا مات العالم انثلمت في الإسلام ثلمة لا يسدها شيء إلى يوم القيامة" أخرجه الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي.
قال ابن القيم رحمه الله (في إعلام الموقعين1/8ـ10): "
لما كان قيام الإسلام بطائفتي العلماء والأمراء، وكان الناس كلهم لهم تبعا، كان صلاح العالم بصلاح هاتين الطائفتين وفساده بفسادهما، كما قال عبد الله بن المبارك وغيره من السلف: صنفان من الناس إذا صلحا صلح الناس وإذا فسدا فسد الناس. قيل: من هم؟ قال: الملوك والعلماء. كما قال عبد الله بن المبارك:
رأيت الذنوب تميت القلوب ----- وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب ----- وخير لنفسك عصيـانها
وهل أفسد الدين إلا الملوك ----- وأحبــار سؤ ورهبانها
"اهـ
وإذا كانت طاعة العلماء تبع لطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء؛ فإن معصية العلماء ومخالفتهم وضياع حقوقهم ضياع لحقوق الأمراء وفتح لباب معصيتهم والخروج عليهم.
فحياة العالِم وصلاحه حياة العالَم وصلاحه! فإذا ضاعت حقوق العلماء ضاعت حقوق الأمراء وإذا ضاعت حقوق العلماء والأمراء فسد العالَم!
وأضرار ضياع حق العلماء كثيرة منها ما هو ظاهر ومنها ما هو خفي، فإن ضياع حق العلماء فساد في الأرض، والله يقول: (
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)(الروم:41)
فمن أضرار ضياع حق العلماء:
1) رفع العلم : فإذا كان العلم يُقبض بموت العلماء. وإذا كان ضياع حق العالم يسبب الحرمان من علمه. فإن ضياع حق العالم كموته يقبض بسببه العلم. فضياع حق العلماء هو موت حكمي للعلم.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "
إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا" متفق عليه.
وبوّب البخاري في صحيحه في كتاب العلم : "
بَاب كَيْفَ يُقْبَضُ الْعِلْمُ وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ انْظُرْ مَا كَانَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاكْتُبْهُ فَإِنِّي خِفْتُ دُرُوسَ الْعِلْمِ وَذَهَابَ الْعُلَمَاءِ وَلَا تَقْبَلْ إِلَّا حَدِيثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلْتُفْشُوا الْعِلْمَ وَلْتَجْلِسُوا حَتَّى يُعَلَّمَ مَنْ لَا يَعْلَمُ فَإِنَّ الْعِلْمَ لَا يَهْلِكُ حَتَّى يَكُونَ سِرًّا"اهـ.
وقول عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "
فَإِنَّ الْعِلْمَ لَا يَهْلِكُ حَتَّى يَكُونَ سِرًّا" أي خفية، أراد به كتمان العلم، وهذا من لوازم ضياع حق العلماء، فإذا ما ضُيّع حق العالم يُزهد في علمه، ويكتم فلا يعود يعرف إلا سراً، بسبب غلبة الجهل على الناس؛ فلا بد أن يعرف الناس العالم، ويجلس للناس يعلمهم، ويجلس الناس إليه لينتفعوا بعلمه: "
وَلْتُفْشُوا الْعِلْمَ وَلْتَجْلِسُوا حَتَّى يُعَلَّمَ مَنْ لَا يَعْلَمُ فَإِنَّ الْعِلْمَ لَا يَهْلِكُ حَتَّى يَكُونَ سِرًّا".
فإن قيل:
ما مناسبة قبض العلم بموت العلماء حقيقة أو حكماً، والقرآن العظيم موجود والسنة موجودة و كتب العلم موجودة مدونة؟فالجواب: يقبض العلم بموت العلماء، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، ولعل مناسبة ذلك تظهر في الأمور التالية:
الأمر الأول : أن العالم يعظم أمر الدين والشرع، فيحث الناس ويدعوهم إلى تطبيقه سنناً وواجبات، فكم من سنة مدونة ومكتوبة أظهرها الله على يد عالم دعى الناس إليها وعلمهم إياها وحثهم على إحيائها.
الأمر الثاني : أن العالم بين الناس قدوة صالحة ، يرى الناس فيه الدين مطبقاً ظاهراً. والقدوة من أعظم طرق التربية والتعليم، فالسنة شعار العالم. فإذا مات العالم اختفت صورة الدين التي كانت عليه بين الناس.
الأمر الثالث : أن العالم لديه ملكة علمية فقهية تساعده على الاستنباط، فإذا ما نزلت النازلة أمكنه بأسرع وقت استنباط الحكم وتعليمه ونشره بين الناس، وبيان حكم الشرع في هذه النازلة، وهذه الملكة لا تأتي بمجرد قراءة للكتب عند نزول النازلة بدون طول ممارسة ومشافهة للعلماء.
الأمر الرابع : أن العالم يجتمع لديه من الفقه بالكتاب والسنة والعلوم والمعارف والتجارب والدراية بأحوال الناس وشؤونهم وأمورهم ما لا يوجد في كتاب، وإذا أراد أحد أن يتتبع كل ذلك احتاج إلى زمان طويل، إذ العالم طوى ذلك في سنوات عمره منذ تلقيه للطلب، فكيف يأتي هذا عن مجرد كتاب؟!
الأمر الخامس : أن للعلماء ثلاثة أسماء، وهي التالية:
الاسم الأول : العالم، وهو الذي يقرر أحكام الشرع على ما هي عليه.
الاسم الثاني : المفتي، وهو من ينزل حكم الشرع على واقع المستفتي.
الاسم الثالث : الحاكم الشرعي وهو القاضي، وهو الذي ينفذ الحكم ويطبقه، واجتهاده يرفع الخلاف في المسألة الاجتهادية.
وكل حاكم مفتي وكل مفتي عالم و لا عكس.
والكتب لا تعطي عالماً و لا مفتياً و لا حاكماً شرعياً على الوصف السابق؛ فلا يستطيع الكتاب أن يجمع ما يحتاجه تقرير الحكم الشرعي في القضية المعينة فتحتاج أن تطالع فيها أكثر من كتاب، وتحتاج الترجيح عند الاختلاف وتطبيق قواعد أهل العلم، وهذا لا يعطيكه كتاب، ولا يستطيع الكتاب أن ينزل حكم الشرع على واقع المستفتي، ولا يستطيع الكتاب أن ينفذ الحكم ويطبقه في الحكومة؛ فقبض العلم بموت العلماء، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم.
2) غياب المرجعية : وذلك أن ضياع حق العلماء يجعل العوام لا يعرفون قدر أهل العلم و لا يحفظون مكانتهم، فتغيب شمس المرجعية عن حياتهم، فيتخبطون في ظلام الجهل، ويختل نظام الحياة، فإن العلماء هم الذين يسوسون العباد والبلاد والممالك فموتهم حقيقة أو حكماً فساد لنظام العالم، فما يعود للناس مرجع يرجعون إليه عند نزول النوازل وحدوث الحوادث، فيقعون في هرج ومرج، إلا أن يشاء الله. وهذا ما جاء في الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "
لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ وَتَكْثُرَ الزَّلَازِلُ وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ وَتَظْهَرَ الْفِتَنُ وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ وَهُوَ الْقَتْلُ الْقَتْلُ حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمْ الْمَالُ فَيَفِيضَ" متفق عليه. فانظر كيف جاءت هذه الأشراط متتابعة!
3) اختلال الأمان النفسي : وذلك لأن غياب المرجعية العلمية يترك فراغاُ في النفس البشرية، لا يسده إلا أن تجد من يغذي حاجتها، فيتخذ الناس رؤوساً جهالاً فيقع الضرر التالي:
4) اتخاذ رؤوساً جهلاء : وذلك نتيجة غياب المرجعية وحاجة المرء إلى من يرجع إليه في سؤاله وبحثه، فإذا لم يجد العلماء، لأن صورتهم قد زلزلت في ذهنه، وما عاد يراهم علماء، فإنه ينظر إلى من يُبْرز على أنه عالم، فيتخذه له مرجعاً، "
حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا".
5) ومن أضرار ضياع حق العلماء : موافقة أهل البدع والأهواء ومشابهتهم : وذلك أن من سنن أهل البدع والأهواء انتقاص العلماء، وانظر ما شئت من الفرق والجماعات المخالفة لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم ولما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم تجد هذا فيهم، فالشيعة أمرهم مشهور، والخوارج حالهم في ذلك مذكور، والمعتزلة شأنهم معروف، والصوفية ونبزهم علماء الشرع أمره ملحوظ، وهكذا لا تجد فرقة و لا جماعة و لا طائفة تخالف الصراط المستقيم، وتخرج عن سبيل المؤمنين، إلا وهي تتكلم في العلماء وتطعن فيهم وتضع من شأنهم، وتضيع حقهم، وتتخذ رؤوساً جهالاً!
قال الشاطبي رحمه الله (في الاعتصام2/239): "
روي أن زعيماً من زعماء أهل البدعة كان يريد تفضيل الكلام (يعني: ما يسمى بعلم الكلام) على الفقه، فكان يقول: إن علم الشافعي وأبي حنيفة جملته لا يخرج عن سراويل امرأة (يعني: أحكام الحيض والنفاس).
هذا كلام هؤلاء الزائغين، قاتلهم الله"اهـ.
6) ومن أضرار ضياع حق العلماء: وقوع الناس في الضلال والخروج عن صراط الهداية : وسبيل والرشاد. وذلك أن الناس سيتخذون رؤوساً جهالاً بدلاً من العلماء فيسألونهم فيفتونهم بغير علم فيضلوا، فيكون من الأضرار وقوع الناس في الضلال. وقد جاء ذكر ذلك في الحديث السابق وهو ما جاء عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "
إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا" متفق عليه.
ومحل الشاهد فيه هنا قوله: "
فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا".
7) ومن إضرار ضياع حقوق العلماء : حلول الذل والهوان على الأمة : يوضح ذلك الحديث الذي جاء عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "
إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ" أخرجه أحمد وأبوداود وأبويعلى، وهو حسن لغيره.
و لا طريق للناس إلى الرجوع إلى الدين إلا بالعلماء. فإذا أضاعوا حق العلماء وما عادوا يعرفونهم وزهدوا فيهم واتخذوا رؤوساً جهالاً كيف يرجعون إلى الدين؟
والدين هو ما جاء في حديث جبريل لما ذكر الإسلام والإيمان والإحسان و أشراط الساعة، ثم قال في آخره: "
ثم انْطَلَقَ (يعني : السائل الذي جاء يسأل على تلك الهيئة العجيبة) فَلَبِثْتُ مَلِيًّا ثُمَّ قَالَ لِي: يَا عُمَرُ أَتَدْرِي مَنْ السَّائِلُ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ" أخرجه مسلم.
فإذا أسقط العلماء واتخذ الناس رؤوساً جهالاً من يعود بالناس إلى دينهم؟! كيف يخرجون من حال الذل والهوان بدون العلماء؟!
8ـ ومن أضرار ضياع حقوق العلماء: الخروج عن سبيل المؤمنين : وهذا منحى توعد أصحابه بالنار.
(
وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً) (النساء:115).
9ـ ومن أضرار ضياع حقوق العلماء : الوقوع في خلاف ما أمر به صلى الله عليه وسلم : من إكرام العلماء وحفظ حقوقهم وعدم إيذائهم، والله عزوجل يقول: (
فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (النور:63).