وضاعت العائلة بسبب فساد الأب
ما ذنب هؤلاء الأطفال؟!
هدى بن مصباح
فنية أشعة بمجمع الأمل
زفرت زفرة عميقة وتأوهت من الألم وجلست أواسيها ووجدتني أسألها، مَن فعل بك هذا؟! سكتت برهة وبدأت تسرد لي قصتها بكل حرقة والدموع تنهمر من عينيها:
"تزوجت منه ولم أكن أدري أنه إنسان يعقر الخمر، ورضيت بنصيبي الذي قسمه الله لي. وعشت معه منذ اليوم الأول قلة الحاجة والفقر الشديد وتحمّلت عناء كل شيء، خصوصاً بعد أن رزقنا الله بابنتنا الأولى التي ملأت عليّ حياتي،
وتوقعت أنه سيتغير ويتوب إلى الله، لكنه تمادى في سهرات المجون والخمر؛ يخرج من الصبح ولا أراه إلا آخر الليل مترنحاً تنبعث منه رائحة الخمر الكريهة، فأضم ابنتي إلى صدري وأختفي بين طيات الفراش خائفة من بطشه وصراخه وشتمه،
لا يدري إن كنا أكلنا أم لا؟ مرضى أم بصحة جيدة.. استأجر لنا بيتاً قديماً تنفذ من خلال نوافذه وأبوابه القديمة والمتهالكة الرياح والغبار والبرد والحشرات. وتضحى ابنتي أيام الشتاء مريضة بالحمّى والإنفلونزا. وأترقب بين الفينة والأخرى تحمل لي بعض الأكل أو الأغراض.. ومرّت الأيام على هذا الحال، زوج سكير عربيد وعيشة ضنكة. وفي لحظة يأس أخذت قراراً لن أتنازل عنه، قررت أن أكمل دراستي الجامعية من أجل أن أنقذ نفسي وأنقذ ابنتي مما نحن فيه. ووافق على ذلك بعد أن أملى عليّ شروطاً لا تحصى ولا تعد.
مرت ثلاث سنوات كنت أجتهد فيها كي أنجح وأستغل عدم وجوده وأدرس ويفرض عليّ ألا أخل بأي واجب منزلي من طبخ وكنس وغسيل.. ويا ويلي لو يأتي آخر الليل ولم يجد ما يأكله،
يشتمني ويضربني رغم أنه هو المخطئ لأنه لم يترك لنا مالاً. ورغم كل هذه الظروف كنت أزداد صبراً حتى أنني كنت أحمل ابنتي بيدي اليمنى لأرضعها وأحمل كتابي بيدي اليسرى لأدرس، ونجحت وأخذت شهادتي الجامعية، وفي غضون تسعة أشهر رزقني الله شغلاً لم أكن أحلم به، واستطعت في بضعة أشهر أن أؤجر منزلاً لائقاً وأشتري أثاثاً جديداً، وأحسست أن حياتي بدأت تتغير، لكنه لا غنى له عن الخمرة، وبعد جدال طويل أقنعني أن آخذ له قرضاً من البنك وأشتري له سيارة ليوصلني بها إلى عملي ويوصل ابنتنا عند أهلي.
طبعاً سهر الليل وعودته متأخراً يجعله لا يستطيع أن يستيقظ، فاضطر أن أستقل سيارة أجرة،
وأصبح أكثر سلبية من ذي قبل لا يتحمل مسؤولية أي شيء في البيت، وازداد افتراؤه وغيابه عن البيت وإهماله لنا، وعندما أكلمه عن ذلك يقول لي:
إذا لم يعجبك الوضع يمكنك أن تغادري المنزل.وكم من مرة أذهب إلى بيت أهلي منكسة ذليلة
ولا يفكر حتى برفع السماعة والسؤال عنا، أثناء ذلك أبدأ في التفكير في هذه الأسرة الصغيرة التي ستتشتت فأعود إلى بيتي فأجده حاوية لزجاجات الخمر وعلب وأعقاب السجائر.. هذا بيتي الجميل الذي رتبته يصير كذا، وأبدأ في تنظيفه وترتيبه من جديد.. وعندما يأتي ويجدني في البيت يسألني لما عدت؟ أشعر بالإهانة وأكره نفسي.
وتتالى الأيام على هذه الوتيرة إلى أن رزقنا الله بولد، ودائماً لديّ أمل بأن الله سيهديه، وأنه سيتغير، ولكن الوضع يزداد سوءاً وتكثر المشاكل،
وأجد مصاريف البيت والأولاد تكثر والراتب صار لا يغطي هذه المصاريف، وهو لا يهتم يحسب راتبه قبل أوانه ولا يساعدني في شيء، وأصبح يجمع أصدقاء السوء في السيارة ويذهبون إلى الأماكن البعيدة الخالية ويشربون فيها الخمرة إلى الصباح، وعندما أركب السيارة أرى بقايا العلب والزجاجات فأندم أني ركبتها. وبدأت ابنتي تكبر وتفهم وترى أبوها وهو في حالة السكر يتلفظ بالكلام البذيء، وتراه كيف يعنفني ويأتي آخر الليل يوقظنا ويصرخ ويضرب ويشتم،
فانعكس ذلك على نفسيتها وأثر في دراستها وعلى تصرفاتها، فصارت تقضم أظافرها بعصبية وتأكل شعرها وأشياء أخرى ونمت وجسمها نحيف، وكانت إذا زرنا أهلي أو أحد أقاربنا لا تريد العودة إلى المنزل وتفضل البقاء عندهم فأشعر بالضيق لهذا الأمر.وفي أحد الليالي جاء مثل العادة يترنح وبدأ يعربد ثم وثب على رقبتي يريد خنقي، فلم أع نفسي إلا وأولادي يصرخون وابنتي تمسكه وتتوسل إليه أن يتركني، ولكن هيهات فقد ضربني حتى اضطررت إلى دخول أحد المستشفيات للعلاج من الرضوض التي أصابتني".
وبعد مدة راجعت هذه المريضة العيادة في مجمع الأمل للصحة النفسية بالرياض لأخذ العلاج من بعض الاضطرابات النفسية التي أصابتها بعد هذه المأساة، فقابلتها وسألتها عن أحوالها وأولادها فقالت لي: "
لقد انفصلت عنه وتركته". فسرح خيالي برهة ورددت في نفسي ما ذنب هؤلاء الأطفال؟!