فتاوى حول الغش في المعاملات التجارية (الشيخ فركوس – حفظه الله -)
الكلمة الشهرية للشيخ حفظه الله : نصيحة للتاجرالحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فاعلم أنّ
التجارة أفضل أنواع المكاسب، وقد عمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في التجارة قبل النبوة، واحترفها عدد كبير من الصحابة رضي الله عنهم من بينهم أكثر العشرة المبشرين بالجنة، وقد أجمع العلماء على أنّ «
الأَصْلَ فِي التِّجَارَةِ وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الَمكَاسِبِ الحِلُّ»، لكن ليست كلّ صور المكاسب التجارية لها صفة الجواز، لذلك كان لزاما بالتاجر أن يعتني العناية الكافية بمعرفة الأحكام الشرعية المتعلقة بفقه المعاملات المالية، وتعلم أحكامها شرط ضروري وأكيد لمزاولة مهنته التجارية، لئلا يقع التاجر في المحرمات من حيث لا يدري، وليعلم من جهة أخرى مدى خطورة مقارفة المنهيات والمحرمات ليجتنبها وليتقي الله فيها.
هذا وأنصح التاجر
أن لا يجعل تجارته مطية للركون للدنيا فيطمع لينال الغرض العاجل، فلا يؤدي حق الله فيما رزقه ولا يصل به رحمه كما في حديث أبي كبشة الأنماري: «
إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ.....وَعَبْدٌ رَزَقَهُ اللهُ مَالاً وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًاً، يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَلاَ يَتَقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَلاَ يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَلاَ يَعْلَمُ أَنَّ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَخْبَثِ المَنَازِلِ».
كما أنّ
على التاجر الحرص على أداء الواجبات والمهمات، فلا يترك تجارته تجرّه للتهاون عن القيام بواجبه الشرعي سواء اتجاه ربه أو أهله وغيرهم أو نفسه، أو الغفلة عن تطبيق الأوامر التي فرضها الله عليه.
وعليه أن يتحلّى بالصدق والأمانة في معاملاته فهو خلق محمود، فيجتنب الكذب وإخفاء العيوب في تجارته، فإنّ الصدق سبب البركة، والكذب والكتمان علّة الكساد والمحق، قال صلى الله عليه وآله وسلم : «
البَيِّعَانَ بِالخِيَّارِ مَا لَمْ يَتَفَرَقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا»(1)، والذي يعلم عيبًا ويخفيه ولم ينبه عليه كان راضيًا بضياع مال أخيه المسلم وهو حرام، ومن ذلك أن يروج السلع بالإعلانات الكاذبة والدعايات المبتذلة، فيشيع ما فيه خداع وغش، ويهول ما فيه تزوير، ويوهم ما فيه تدليس، وقد يكون بالأيمان الكاذبة.
كما أنّ
على التاجر أن ينشر الفضيلة بتجارته فلا يساعد بها على ما يلوث الاعتقاد السليم أو يقدح في المنهج النبوي المستقيم أو ما يفسد الخلق القويم، فلا يبيع الرذيلة وهي كلّ محرّم لذات المبيع، أو ما نهى الشرع عنه لأنّه إعانة على حرام، أو لكونه ظلما أو أكلا للمال بالباطل كالرّبا وأنواعه، وما يحدث نزاعا بين الإخوة الإيمانية كبيوع الجهالة والغرر...
وعلى التاجر أن يمتنع عن ممارسة أعمال تجارية في الأوقات التي يحرم فيها البيع، وأن يفي الإيفاء الحقيقي للسلعة كمّاً وكيفاً دون بخس أو انتقاص، وأن يتجنب رفع السعر على مشتر غافل، أو على راكن ثقة بالبائع، أو مسترسل.
فالحاصل أن يسعى التاجر إلى تحقيق الفضيلة ونشر الخير وتوسيع دائرته مع تقوى الله التي هي سبب رفع البلاء وكسب الرزق الحلال قال تعالى: ﴿
وَمَن يَّتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ﴾[الطلاق 2]، وقال تعالى: ﴿
وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِّرِ وَالتَقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ﴾[لمائدة 2].
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الثلاثاء 27 محرم 1426ه
الموافق لـ: 08 مارس 2005م
________________________________________
1- أخرجه الدارامي: (2/6)، والنسائي: (4/196)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» :(2/54) من حديث حفصة -رضي الله عنها-.
الفتوى رقم (1) : في التعامل بالبضائع ذات عنوان تجاري مزوّر السؤال: لقد عمّت ظاهرة الغش في المعاملات التجارية، حتى أضحى كثير من المستوردين يأخذون سلعة أصلية إلى الصين، ويصنعون أمثالها، وتوضع في علب شبيهة بالأصلية، وتسوَّق على أنّها الأصلية، فهل يعدّ هذا اعتداء على حقوق الغير؟ وماذا يلزم من يملك مثل هذه البضائع؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فالمسلم ينبغي أن يكون صادقًا، ويلتزمه كخلق له ظاهرًا وباطنا، فإذا عامل غيره صدقه في معاملته فلا يغشه، ولا يخدعه، ولا يغرّر به، ولا يزوّر عليه بحال من الأحوال، ذلك لأنَّ الصدق من متمّمات إيمانه، ومكمّلات إسلامه قال تعالى: ﴿
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ﴾[التوبة: 119].
وهذه المعاملة غير جائزة شرعًا، لما فيها من اعتداء على مال الغير بغير إذنه، والكذب على الناس وغِشّهم، ومخالفة وليِّ الأمر، وهذه صفات قبيحة، وإذاية للمسلمين، والقبح لا يكون خُلُقًا للمسلم ولا وصفًا له بحال قال تعالى: ﴿
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً﴾[الأحزاب: 58]، وقال تعالى: ﴿
وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾[فاطر: 43].
والمسلم قريب من الخير، بعيد عن الشر، فيجتنبه ولا يعين عليه لقوله تعالى: ﴿
وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾[المائدة: 2].
وبناء عليه،
فمن باع هذه السلع والبضائع المغشوشة على صفتها فهو غير ناصح ولا أمين، وفي الحديث: "
أدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَن ائْتَمَنَكَ وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ"(1) ويلحقه الإثم، وربحه ليس محرما لذاته، وله أن ينتفع به، ومن بقيت عنده من تلك البضاعة، فعليه تعريف المشتري بحالها، إن رغب في شرائها منه، ويمتنِع بعد التخلص منها عن الإعانة عليها، وعلى المسلم أن يتقي الله، ويسلك طرق الكسب الحلال، فإنَّ تقوى الله وإرضاءه سبب لتيسير الله أمره، قال تعالى: ﴿
وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً *وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ، وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ، إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً﴾[الطلاق: 2-3].
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.
الجزائر في: 1 صفر 1427ه
الموافق لـ: 1 فبراير 2006م
________________________________________
1- أخرجه أبو داود في «سننه» كتاب الإجارة، باب في الرجل يأخذ حقه من تحت يده: (3535)، والترمذي في «سننه» كتاب البيوع: (1264)، والدارمي في «سننه»: (2499)، والحاكم في «المستدرك»: (2296)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال السخاوي في «المقاصد الحسنة» (51): «قال ابن ماجه: وله طرق ستة كلها ضعيفة، قلت: لكن بانضمامها يقوى الحديث». وصححه الألباني بمجموع طرقه في «السلسلة الصحيحة»: (423)